عودة إلي تقارير قديمة‏..‏ ونسأل

أثار العمل الإرهابي المجرم ضد كنيسة القديسين غضبا عارما من جميع المصريين‏,‏ كثير من هذا الغضب وجه ضد الفكر المتأسلم الذي يجعل من الإرهاب سبيلا لما يسمونه ـ تأسلما ـ بالجهاد‏.


لكن بعضه أتي من طريق آخر‏,‏ وتمثل في مظاهرات قبطية غاضبة غضبا غير مسبوق وموجه حتي ضد الذاهبين للعزاء في ضحايا الجريمة من مسئولين كبار‏,‏ الأمر الذي أثار تساؤلا مشروعا حول السبب الذي أدي إلي تغيير وجهة الغضب‏.‏
وفي اعتقادي أن هذا الغضب الذي توجه ليس إلي مرتكبي الجريمة‏,‏ وإنما إلي مسئولين حكوميين هو وليد تراكمات عديدة قرأها الإرهابيون قراءة ماكرة وأرادوا بفعلتهم المجرمة تفجيره‏,‏ وفي هذا الاتجاه بالذات‏.‏
كذلك فإن قراءة تعود بنا إلي سنوات عدة توضح لنا أسباب هذا الغضب ودوافعه‏,‏ وهي قراءة سوف تعتمد علي وثيقتين مهمتين‏,‏ الأولي أتت عقب أحداث الفتنة الطائفية في مدينة الخانكة‏1972,‏ إذ أصدر مجلس الشعب قرارا بناء علي أمر من الرئيس السادات بتشكيل لجنة لتقصي أسباب هذه الفتنة‏,‏ وأصدرت اللجنة تقريرا تحدث عن عديد من الأسباب وعن الحلول المقترحة لحلها‏,‏ وجاء فيه‏:‏ ضرورة سيطرة الدولة علي المساجد الأهلية التي أصبحت مرتعا للجماعات المتطرفة‏,‏ ومحلا لترويج أفكار خاطئة وليست من صحيح الدين‏,‏ كذلك لفتت اللجنة النظر في تقريرها إلي أهمية مسألة التربية الدينية الصحيحة والمتكافئة في المدارس‏,‏ إذ قال التقرير بعد أن أصبحت التربية الدينية مادة أساسية في مناهج التعليم العام فإن المدارس قد أصبحت من مؤسسات الدعوة‏,‏ ولأن المدارس تضم أبناء من المسلمين والأقباط فإنه يجب إتاحة الفرصة‏,‏ لأن تتسم دروس الدين جميعا بعرض لحقائق الأديان بحسن إدراك‏,‏ وسعة أفق‏,‏ وبعد عن التعصب‏.‏
ثم يمسك تقرير اللجنة بالجرح الحقيقي ويضع يده عليه‏,‏ وهو موضوع الخط الهمايوني وحق الأقباط في إقامة دور عبادتهم‏,‏ ولنقرأ فقرات منقولة نصا عن هذا التقرير المهم‏:‏ منذ انتصر عمرو بن العاص علي الروم البيزنطيين الذين كانوا يحكمون مصر‏,‏ وقد أصبح أقباطها يتمتعون بحرية العبادة‏,‏ وأمنوا علي حرية ممارسة شعائرهم الدينية‏,‏ وسمح المسلمون للأقباط ببناء كنائس جديدة‏,‏ والاحتفال بأعيادهم‏,‏ وقد كان عيد وفاء النيل عيدا عاما يشترك فيه الولاة والمسلمون والأقباط علي السواء‏,‏ بل لقد قام الواليان العباسيان الليث بن سعد‏,‏ وعبدالله بن لهيعة ببناء الكنائس واعتبرا ذلك من عمارة البلاد‏,‏ بل قيل إن عامة الكنائس التي بمصر لم تبن إلا في الإسلام في زمن الصحابة والتابعين‏(‏ يراجع في ذلك كتاب الإسلام وأهل الذمة تأليف الدكتور علي حسن الخربطلي من منشورات المجلس الأعلي للشئون الإسلامية ص‏161),‏ كما تزوج العزيز بالله ـ من خلفاء الدولة الفاطمية ـ من زوجة قبطية مثلما فعل محمد‏(‏ صلي الله عليه وسلم‏)‏ حينما تزوج من مارية القبطية‏,‏ وحينما أوصي بالقبط خيرا‏.‏
ثم يأتي تقرير اللجنة إلي الجرح الحقيقي فيقول‏:‏ وفي عصرنا الحديث لايزال تنظيم إقامة الكنائس أو تعميرها وترميمها يخضع لأحكام الخط الهمايوني الصادر من الباب العالي في فبراير‏1856‏ الذي كان يمثل وقتئذ اتجاها إصلاحيا تناول جملة نواح منها تأمين حقوق الطوائف غير الإسلامية‏.‏
ثم يمسك التقرير بالحقيقة علي حقيقتها وننقل عنه نصا‏:‏ وقد تبينت اللجنة أن من أهم الأسباب التي تؤدي إلي الاحتكاك وإثارة الفرقة هو عدم وضع نظام ميسر لتنظيم هذه التراخيص دون أن يتطلب ذلك صدور قرار جمهوري في كل حالة‏,‏ ذلك أن استصدار هذا القرار يحتاج إلي وقت‏,‏ وكثيرا ما تتغير خلاله معالم المكان الذي أعد لإقامة الكنيسة مثل أن يقام مسجد قريبا منه فيخل بتوافر الشروط العشرة‏,‏ ونتيجة لبطء الإجراءات كثيرا ما تلجأ بعض الجمعيات القبطية إلي إقامة هذه الكنائس دون ترخيص‏,‏ وفي بعض الحالات تتسامح جهة الإدارة في ذلك‏,‏ وفي حالات أخري يجري تحقيق مع المسئول عن الجمعية‏,‏ وهو أمر بادي التناقض مع المبدأ الذي كفله الدستور في مادته السادسة والأربعين‏,‏ الذي جاء نصه مطلقا وهو كالآتي‏:‏ تكفل الدولة حرية العقيدة‏,‏ وحرية ممارسة الشرائع الدينية‏.‏
أما الوثيقة الثانية فقد أتت في عام‏1981‏ وعن مجلس الشوري‏,‏ وذلك عقب أحداث فتنة طائفية دامية أخري‏,‏ وقد جاء فيها عديد من الأسباب وعديد من الحلول‏,‏ منها أخطاء في برامج في التليفزيون‏,‏ وفي الصحف‏,‏ كما يمسك التقرير بتلابيب مناهج التعليم وأساليبه في المدارس‏,‏ وبرامج التليفزيون وأجهزة الإعلام عموما كأحد مسببات الفتنة‏,‏ ويقدم توصيات محددة‏.‏
إن أجهزة التربية والإعلام والدعوة مسئولة عن توجيه الأمهات والآباء نحو الأساليب السليمة للتربية المنزلية‏,‏ وخاصة بغرس بذور الحب والتسامح والإخاء‏,‏ ونبذ التعصب والكراهية والبغضاء منذ الطفولة الأولي‏,‏ وفي هذه السنوات‏,‏ وفي البيت تغرس الأسس الأولي للعقيدة الدينية‏:‏ إسلامية أو مسيحية‏,‏ العقيدة الصافية المبرأة من أسباب الخلاف‏.‏
ويقول التقرير‏:‏ صحيح أن مناهج التربية الدينية الإسلامية والمسيحية في مدارسنا تعني بموضوع التسامح الديني‏,‏ لكن المسألة ليست مسألة منهج فحسب‏,‏ وإنما العبرة بالأسلوب الذي يعالج به المنهج‏,‏ والمواقف التي يتأتي فيها التطبيق والممارسة‏.‏
ويقول‏:‏ إن المدخل الأساسي في سبيل تحصين أبنائنا وبناتنا ضد التيارات الوافدة للنيل من وحدتنا الوطنية‏,‏ وضد التعصب الديني الأعمي‏,‏ هو أن يربي كل من المسلم والمسيحي تربية دينية سليمة‏,‏ قائمة علي التفهم الصحيح للدين‏,‏ والمدرسة يمكنها أن تؤدي دورا فعالا في هذا الصدد‏,‏ لاسيما إذا عاونها المسجد والكنيسة وأجهزة الإعلام‏.‏
ويمضي التقرير‏:‏ وكم يكون جميلا أن يشارك المسلمون من التلاميذ زملاءهم المسيحيين وجدانيا في المناسبات الدينية المختلفة والعكس صحيح‏,‏ ثم يؤكد التقرير‏:‏ إن خير وسيلة لبث قيم الحب والتسامح والوحدة هي تلك التي تتأتي لا عن طريق الوعظ والإرشاد‏,‏ لكن عن طريق المواقف والممارسات‏,‏ ثم يفرد التقرير جانبا خاصا لدور الإعلام إحساسا منه بخطره وخطورته‏,‏ ويلح التقرير علي دور الإعلام في تفنيد المزاعم الباطلة‏,‏ والفهم الخاطئ لجوانب الدين حماية للشباب من التغرير بهم‏:‏ وأن يكون الإعلام في ذلك واضحا وصريحا‏,‏ ومرتكزا علي الحقائق المجردة‏.‏ ويطالب التقرير الصحافة بأن تقوم بمضاعفة جهودها لدعم الوحدة الوطنية والتصدي بموضوعية وقوة لأعداء البلاد في الداخل والخارج‏,‏ وعلي صحافتنا أن تبذل قصاري جهدها لإيجاد مناخ وطني سليم بعيد عن التعصب‏.‏
والمثير للدهشة أننا لو أعددنا تقريرا الآن فإننا سنكتب ذات الكلمات‏,‏ فهل معني ذلك أننا لم نستفد من دروس الماضي‏,‏ ولم نجد سبيلا لحل مشكلاتنا برغم كل الدراسات والتقارير والخطب؟